4/07/2009

عبد الوهاب المسيري


عبد الوهاب المسيري
فيلسوف واديب ولغوي وشاعر وناقد وعالم اجتماع ومؤلف قصص للاطفال
وهذه تعكس الفكر الموسوعي لهذا الرجل
لديه العديد من المؤلفات المكتوبة بهموم وامل والم واسئلة حيث انه لم يكتب لمجرد الحصول على الشهادات ولذا فليس من الغريب ان ينفق على موسوعته التاسيسية التفيكية الضخمة 500ألف دولار من جيبه الخاص
هذه الموسوعة التي تعد عملا فارقا في الدراسات الاجتماعية عموما. وفي كيفية الوصول الى الحقيقة بعيدا عن الادعاءات بامتلاك المؤلف للحقيقة باسم الموضوعية التي تعني في الغالب التجرد من التحيز ورصد الظاهرة . ولكن في الغالب ما يسقط الدارس تحيزاته على الظاهرة بوعي او دون وعي لان الانسان كائن متحيز لايرصد الواقع المادي كما هو بل بما يسقطه عليه من معتقدات و افكار.
وبذلك ينتصر المسيري للعقل التوليدي الاجتهادي الذي يستبعد ويقرب ويهمش جزء من الواقع المادي وليس الجامد الذي يتلقى الواقع كما هو فالعقل الانساني ليس كاميرا كما يقول عبد الوهاب المسيري.
وبهذه الخلفية دخل عبدالوهاب المسيري المصاب بداء التامل لدراسة الحضارة الغربية ورغم ان الموسوعة تحمل "اسم اليهود واليهودية والصهيونية نموذج تفسيري جديد" الا انها في الحقيقة دراسة شاملة للحضارة الغربية مع التركيز على الافراز الصهيوني منها،وبهذا يكون المسيري قد اخرج دراسة الصهيونية من التوراة والتلمود الى الاجواء الاستعمارية المسيطرة على اوروبا.
ويحكي المسيري عن بداية انتباهه للصهيونية التي كان ينظر اليها كما هي النظرة السائدة لاغلب الناس لها حتى جاء هذا الموقف.
والموقف هو انه بينما هو في جامعة كولومبيا المرموقة في نيويورك حيث كان يدرس الادب الانجليزي التقى بطالبة فسالته عن جنسيته واسمه فاجابها فرد عليها السؤال فقالت له بان جنسيتها يهودية ، فردت عليه بانه لم يسالها عن ديانتها فردت عليه بعصبية بان جنسيتها يهودية ولكن هذه الحادثة لم تمر على المسيري دون تساؤل فبدات من هذه اللحظة مسيرة المسيري مع الصهيونية والتي انفق ربع قرن كان يبدا يومه في البحث من السادسة صباحا حتى الثانية عشرة عند منتصف الليل
ولاشك ان العمل الخارق كان له تاثير على صحته لكنه انكب على هذا العمل بحب وتجرد فكان عمل مرجعي جديد بوأ المسيري مكانة ابن خلدون في علم الاجتماع ولينتظم مع ابن نبي وعلي عزت بيغوفيتش ومحمد اقبال في قائمة اعظم علماء المسلمين في القرن العشرين.
الموسوعة تفكيكية لانها فككت التحيزات الغربية وهدمتها وتاسيسية لانها اسست لنظرة جديدة للصهيونية والحضارة الغربية.
الحضارة الغربية في نظرة المسيري حضارة مادية تعلي من مبدأ التقدم المادي مهما كانت التكلفة الانسانية المدفوعة في سبيل هذا التقدم.
عند اقتراب المسيري من سبب مشكلة اليهود في اوروبا وجد ان اليهود كاقلية لم يعاملوا في الديانة المسيحية كبشر لهم حقوق قانونية مثل ما حصل في الاسلام الذي عامل غير المسلمين بمفهوم اهل الذمة ،لهم مالنا وعليهم ما عينا وهذا مفهوم قانوني يستوجب لغير المسلمين حقوقا وواجبات ،احببناهم ام كرهناهم على عكس مفهوم المحبة المسيحية التي تعاملت به مع اليهود الكنيسة الكاثوليكية .
وكانت الكاثوليكية تنظر لليهود بانهم المسؤلون عن "صلب" المسيح وبرغم ذلك تعهدت بحمايتهم باعتبار ان "وضاعه" اليهود تقف شاهدا على عظمة الكنيسة.
وهذا الموقف ادى لغربة اليهود عن مجتمعهم،وهنا تبلورت ظاهرة مايسميها المسيري"الجماعات الوظيفية".
والجماعات الوظيفية هم مجموعة من البشر يجلبهم المجتمع او يتواجدون بينه لاداء اعمال لايؤديها المجتمع لسبب او اخر مثل الاعمال المشينة "البغاء" او ان المجتمع يراها مشينة مثل جامعي القمامة ،اما اليهود في المجتمعات الاوروبية القديمة فكانوا تجار ومرابين.
وهذه الاعمال لم يكن يؤديها المسيحيون الاوربيون في العصور الوسطى لتحريم المسيحية للربا والنظرة المشينة للتجارة.
فاستغل الملوك الاوربيون والكنيسة في اداء هذه الاعمال،فكانوا يجمعون الضرائب الباهظة من الاهالي ومن ثم يعتصرها الملوك من اليهود فالمسيري يشبه اليهود هنا بالفوطة التي تشرب بالاموال ثم يعتصرها الملوك بالضرائب الفادحة منهم.
ولعدم وجود تعريف قانوني لوضع اليهود،اصبحت حياة اليهود مرتبطة بمدى ولا ئهم للمك، وعندما كان الاهالي يثورون على الضرائب الفادحة كانوا يتوجهون الى اليهود، لعدم ادراكهم لصلة الوصل بينهم وبين الملوك كحال الثورات الشعبية عموما التي لاتدرك تشابك الخيوط ، وفي هذه الثورات كانت الكنيسة تحمي اليهود.
هذا الوضع خلف انطباعات عميقة عن اليهود في الوجدان الغربي، فارتبط اليهود في مخيلة الاوربيين بكل شر حتى انه كان شائعا بين الجماهير المسيحية ان اليهود في احد اعيادهم يختطفون طفلا مسيحيا ويذبحونه في طقوس ذلك العيد ، وعندما انتشر مرض الطاعون الذي فتك باعداد كبيرة جدا من سكان اوروبا وسمي انذاك بالمرض الاسود اتهم اليهود بانهم وراءه لان عدد اليهود المتوفين جراء هذا المرض لم يكن بنفس نسبة المسيحين لا نهم كانوا يعيشون في احياء مغلقة على انفسهم -وهذا نتيجة هامشيتهم في المجتمع وليس بسب وجود رغبة انعزاليه لليهود- بدليل انهم شاركوا في بناء الحضارة الاسلامية كغيرهم من الفئات الغير مسلمة التي شاركت في الحضارة الاسلامية، وهنا ينبه المسيري بضرورة الانتباهة للفرق بين مسلم واسلامي اذ ان المسلم هو المؤمن بالاسلام عقيدةوشريعة اما الاسلامي فهو انتاج تحت ظلال الحضارة الاسلامية سواء كان المنتِج مسلم ام غير مسلم.

مر الزمان وانبثقت البوتسانتية التي فسرت النصوص المقدسة تفسيرا حرفيا ومنها ضرورة عودة اليهود الى فلسطين كشرط لعودة المسيح وعندها سيخير اليهود بين الايمان بالمسيح او القتل، وترسخت فكرة ضرورة عودة اليهود الى فلسطين ولذا فهناك العديد من الصهيونيين المسيحين المؤيديين بشده للدولة الصهيونية، لذا فليس كل صهيوني يهودي.
انسلخت اوروبا عن مسيحيتها ، وظهرت الدولة المطلقة التي تعرف الخير والشر حسب مصالحها واصبحت المعبود والوثن الجديد لاوروبا -سياسين ومفكرين- ولم ترد هذه الدولة ايه منافسة من احد فضربت سلطات الكنيسة والاقطاعيين، وبازياد نفوذ وقوة هذه الدولة استولت على المعاملات التجارية التي كان اليهود يؤدوها، فلم يعد لليهود وظيفة، وقد قيمت هذه الدولة الناس حسب نفعهم لاكرامتهم الانسانية.
وهنا اشتعل الصراع في اوروبا والمناقشات حول مدى نفع اليهود وجدواهم.

اوروبا الان مليئة بالحركات اللادينية بعد ان وثقت اوروبا بالعقل ونبذت الوحي وامنت بان الانسان يستطيع ان يسوس حياته بدون ايه عناية الهية وكانت هذه الحركات تدعوا بان يكون الايمان شيئا شخصيا بين العبد وربه رافعة شعار الدين لله والوطن للجميع، فكان من الطبيعي ان يكون اليهود من اكثر المنضمين لهذه الحركات التي ستضمن لهم الخروج من العزلة والتهميش الذي عاشوه.
المسيري يؤكد هنا الفرق بين الحضارة الاسلامية والغربية، اذ ان اليهود ابدعوا في ظل الحضارة الاسلامية وهم على دينهم اما في الغرب فلم يندمجوا في المجتمع ويبدعوا الا بعد الانسلاخ من دينهم

ولقد لاحظ المسيري ان الجماعات الوظيفية في مثل الحالة اليهودية تكون الاكثر قابلية لدعوات اللادينية اذ انها تعيش في المجتمع بدون ان تكون جزء منه وبالتالي لاتحمل اي قداسة لقيم المجتمع الذي تعيش فيه وهذا ما يفسر في نظر المسيري وجود اعداد كبيرة من خلفية يهودية في الحركات الماركسية والفوضوية واللادينية.

كيف تحل اوروبا مشاكلها في العادة ومن بينها ماسمتها"المسألة اليهودية" وبالمناسبة فهي تذكرنا ب"المسألة الشرقية" و"المسألة العراقية" ولتنذكر كيف حل الغرب هذه المسائل كلها.
اوروبا الان حائرة في التعامل مع اليهود، وفي ذاك الزمن كان جزء من اليهود اندمج في المجتمع الاوروبي وجزء لم يوفق وهو الذي يعيش في المانيا وبولندا.
النخب الصهيونية التي عاشت في هذه الاجواء تاثرت بفكرة الدولة القومية فارادت لليهود دولة قومية لما اسمته" تحقيق ذاتيتهم" وتخليص اوروبا من الفائض السكاني.
المسيري يشدد ويصر بان مؤسسي الصهيونية هم من خلفية يهودية ولكنهم ملاحدة ويدلل على ذلك بان هرتزل مؤسس الصهيونية عندما اراد الزواج رفض الحاخام تزويجه باعتباره غير يهودي.
الافكار بدون قوة تحققها على الارض ستكون مجرد احلام ومن هذا المنطلق بحث قادة الصهاينة عن منفذ لهذا المشروع يكونون وكلائه في المنطقة التي يزرعهم فيها.
اماكن اخرى غير فلسطين كانت مرشحه للمشروع الصهيوني الا ان القرار استقر على فلسطين لا نها بمعنى ما يقوله قادة الصاينة صرخه يمكن ان تنادي كل اليهود.
هنا المسري يوضح الفرق بين الحنين الديني والاستعمار والاحتلال
اذ ان اليهود يحنون الى صهيون وهو اسم جبل في فلسطين وبحسب العقيدة اليهودية فان العودة الى صهيون محرمة ما لم ياذن الرب واذا عاد احد قبل اذن الرب فهذا يعتبر تعجيل بالنهاية.
الا ان الصهيونية وبرغبتها في تجنيد الجماهير رفعت شعار الذهاب الى فلسطين اولا والتمهيد لعوده الماشيح بدل الانتظار السلبي.
تركنا اوروبا ما زالت تفكر
لكن هذه المرة طرأ طارئ جديد وهو انتخاب هتلر الذي حمل اليهود مسؤلية خسارة المانيا للحرب.
وتعهد باخراج المانيا من حالة الذل التي كانت تعيشها،وبما ان الهدف واحد وهو اخراج اليهود من اوروبا فقد التقى الصهاينة والنازيين.
يتحدث المسيري عن ان النازيين لايختلفون عن بقية الدول الاستعمارية في نظرتهم المادية للانسان ولذا لم يكن عجيبا ان يصرح هتلر باعجابه بالبيض الذين ابادوا الهنود الحمر من منطلق عدم نفعهم.
ان الانسان الابيض عندما كان يبيد الهنود الحمر كان يستخدم لغة دينية واصفا الهنود الحمر تارة بالوثنيين وتارة بالاتراك.
ولذا لم يكن غريبا على هتلر ان يستخدم الكنائس في حملته التعبوية الاستعمارية رغم ان منطلقاته ومنطلقات بيض امريكا واستراليا كانت منطلقات مادية نفعية. لذا فالمسيري يصف الحضارة الغربية بانها حضارة "داروينية ذات ديباجات دينية"
وهنا يشدد المسيري على ان النازية لم تكن تقتل اليهود لانهم يهود وانما لانهم غير نافعين ومن كان منهم نافعا الحق نسبه بالجريمان.
طلب هتلر من بولندا قبول طلبه باستقبال "الفائض" من اليهود ، ولكن بولندا رفضت متعلله بسيادتها، وقد ركب جزء من هذا الفائض مهاجرا الى امريكا ولكن امريكا وصدت ابوابها في وجوههم فاضطروا الى العودة حيث تم ابادتهم ، هنا يذكر المسيري بنفاق الغرب الذي يتباكى الان على ضحايا المحرقة. مجهر المسيري المذهل يقترب من وقائع هذه الابادة حيث يكتشف ان النازيين لم يبيدوا اليهود وحسب بل الغجر والمعوقين واصحاب العاهات بل وحتى الجرحى الالمان ، وهذا القتل لم يكن على اساس الحب او الكرهه بل على اساس حسابات اقتصادية دقيقة تحسب الربح والخسارة، اي ان القتل هنا لم يكن حتى بحسابات انسانية مثل الرغبة في الانتقام والرغبة في الامن، اي قتل آلي وحسب.
كما استفاد الطب في العهد النازي من التجارب المخبرية على البشر مباشرة، حيث كان النازيون ينظرون الى الذين تجرى عليهم التجارب كخنازير تجارب لا اكثر.
ان النازية هي التجلي التام والمتبلور للحضارة الغربية،التي بدأت بالابادة ومازالت مستمرة في اقتراف الجرائم المهولة في حق مختلف الشعوب.
يقف المسيري عند القائلين بان الحضارة الغربية مُثُلها الديمقراطية وحقوق الانسان والمساواة، وان الاستعمار شئ هامشي في مسار هذه الحضارة، ويرد قائلا بان الظاهرة اذا تكررت بشكل مستمر فلا تعد امرا هامشيا بل مركزيا، لذا فهو يعيد قراءة هذه الحضارة من هذه الزاوية، فيجد ان الحضارة الغربية قائمة على تمكين الداخل وتفتيت الخارج لانها حضارة انانية كما يقول ابن نبي لاتشع خيرها على غيرها، لذلك المسيري يسخر من من يسميهم بالببغائات الذي يرددون دعاوي الغرب في الديقراطية وحقوق الانسان.
ولكن هذا لا يعني ان الغرب قد يتحدث عن بعض الانتهاكات التي تحصل في البلاد الاخرى ويكون هناك فعلا انتهاكات، لكن دائما السؤال ما هو المرمى من اثارة هذه الامور، هل هو فعلا البحث عن حلول لهذه المشاكل ام حزنا على تخلف تلك الدول،وهنا دائما ما كان المسيري يسأل هؤلاء الاستعمارين الذين يثيرون مسألة تخلف تلك البلدان هل اذا تقدمت تلك البلدان فهل هذا الامر يريحهم.
وهكذا فان الصيونية في نظر المسيري لاتختلف عن التجارب الاستيطانية الاحلالية السابقة في الجزائر وجنوب افريقيا، والتي انتهت في كليهما بانتصار اصحاب الارض.